دعوته صلى الله عليه وسلم عشر سنين إلى التوحيد دون غيره

دعوته صلى الله عليه وسلم عشر سنين إلى التوحيد دون غيره قال المصنف رحمه الله: (أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشْرَ سِنِينَ، يَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ، وَبَعْدَ الْعَشْرِ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَفُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَواتُ الْخَمْسُ، وَصَلَّى فِي مَكَّةَ ثلاث سنين، وبعدها: أُمر بالهجرة إلى الْمَدِينَةِ). الشرح الإجمالي: وقد (أخذ) النبيصلى الله عليه وسلم (على هذا) النهج في الإنذار عن الشرك، والدعوة إلى التوحيد:(عشر سنين)، وهو (يدعو) قومه، وعشيرته الأقربين(إلى التوحيد)، وينذر عن الشرك، ويأمر بالأخلاق والعفاف والصلة، (وبعد) السنوات (العشر) من بدء النبوة والرسالة، وهو في مكة (عُرج به)، يعني: صُعِد به بالمعراج - السلم الخاص الذي تصعد فيه الملائكة - (إلى السماء) السابعة، كلمَّا مر بسماء تلقاه مقربوها، حتى جاوزهم إلى سدرة المنتهى، فبلغ من الارتفاع والعلو إلى ما الله به عليم، ودنا من الجبار جل جلاله، وكلَّمه بلا واسطة، فأوحى إليه ما أوحى،(وفرضت عليه الصلوات الخمس)، وهو في السماء، (وصلى في مكة) الصلوات الخمس المفروضة: (ثلاث سنين) بعد أن عرج به، وفرضت عليه، (وبعدها)، أي: بعد السنة الثالثة عشر من بعثته: (أُمر بالهجرة) من مكة (إلى المدينة)، فصلَّى في مكة السنة العاشرة، والحادية عشرة، والثانية عشرة، من البعثة، ثم بعد ذلك أمر بالهجرة إلى المدينة؛ لأن أهل مكة منعوه أن يقيم دعوته، فاستقبله الأنصار في المدينة النبوية، وآووه ونصروه، حتى بلَّغ دين ربه فانتشر في الآفاق[1]. الشرح التفصيلي: قال المصنف - رحمه الله تعالى -: (أخذ على هذا عشر سنين يدعو إلى التوحيد): وأراد بهذا بيان أن صلب الدعوة وأساسها ومحور الخلاف مع المشركين هو دعوته صلى الله عليه وسلم إلى عبادة الله وحده، فالمقصود أنه صلى الله عليه وسلم بقي في مكة ثلاث عشرة سنة، وهو يدعو إلى التوحيد؛ لأن الشرائع بتفاصيلها وفروعها إنما وقعت في الغالب والجملة في المدينة النبوية؛ وهذا يدل على أن حقيقة ما بُعث به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المقصود الأعظم من بعثة النبيين وإرسال المرسلين: الإنذار عن الشرك والدعوة إلى التوحيد؛ وهذا يدل على أن التوحيد من أوجب الواجبات، وأنه يُبدأ به قبل غيره[2]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه لليمن: (فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله)[3]؛ وجَعْلُ المصنف -رحمه الله تعالى- الأمر يعود على عشر سنين، وهن: ثلاثة عشر من السنين؛ لأن السنين الأولى، وهي: الثلاث، كانت الدعوة فيهن خفية وسرية، وأما النذارة التي بمعنى التحذير الظاهر فكانت في السنين العشر فحسب. قال المصنف: (وبعد العشر عرج به إلى السماء): أي: بعد عشرٍ من السنين عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء؛ فالمصنف -رحمه الله تعالى- يقصد هنا العشرَ، ولا يقصد العشر بعد الثلاث التي هي دعوة في خفية؛ لأن الإسراء عند جمهور المؤرخين وأهل السير وقع في السنة العاشرة ثم بقي النبي صلى الله عليه وسلم بعد الإسراء سنين، وكان بقاؤه في مكة ثلاثة عشر سنة، وقوله: (إلى السماء): المقصود به جنس السماء، أي: السماوات، فعُرج به حتى ارتفع في مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، حتى إنه قرُب من ربه جل وعلا، وكلمَّه ربه جل وعلا بدون واسطة، ورأى عليه الصلاة والسلام تلك الليلة الحجاب الذي احتجب الله جل وعلا به عن خلقه فلا يرونه، كما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل هل رأيت ربك؟ -أي: ليلة المعراج- فقال: (رأيت نورا)، وفي رواية أخرى قال: (نورٌ أنّا أراه)[4]، يعني: ثَمَّ نور فكيف أراه؟ وهذا من الفضل العظيم له عليه الصلاة والسلام؛ أنه ارتفع من الأرض إلى ما بعد السماء السابعة، ورأى الجنة، ورأى النار في ليلة، ورجع، والسماء الواحدة لا يقطعها القاطع إلا بمسيرة خمسمائة سنة، وما بين السماء والسماء لا يقطعها القاطع إلا بمسيرة خمسمائة سنة، وهكذا إلى السماء السابعة، فالمعراج له عليه الصلاة والسلام مما يدل على عظم قدره عند ربه جل وعلا؛ لهذا قال تعالى ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ﴾[5]، أي: في بعض الليل أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به من هناك إلى السماء السابعة، ثم رجع إلى بيت المقدس، ثم رجع من بيت المقدس إلى مكة، وفراشه لم يبرد بعد، و لاشك أن هذا مما أكرم الله جل وعلا به نبيه عليه الصلاة والسلام[6]. قال -رحمه الله تعالى-: (وفرضت عليه الصلوات الخمس)، أي: في وقت عروجه؛ وذلك لشرفها وعظيم مكانتها، فإن الله سبحانه وتعالى، اختص هذه الفريضة دون غيرها، بأن باشر فرضها سبحانه وتعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ولم يجعل بينه وبين رسوله سفيراً أو رسولاً من الملائكة، وفُرضت عليه خمسين صلاة، ثم لم يزل يطلب من ربه التخفيف حتى صارت خمساً؛ وكانت الصلاة في السنوات العشر التي قبل المعراج للسماء: صلاتين في اليوم والليلة، الأولى: في إقبال النهار، والأخرى: في إقبال الليل، وهما: الفجر، والمغرب؛ أما الصلوات الخمس فلم تُفرض إلا بعد ذلك [7]؛ وبعد فرض الصلوات الخمس في مكة كانت الرباعية تُصلى ركعتين؛ حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأُقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر؛ ويدل لذلك ما ورد عن عائشة < قالت: (فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ففرضت أربعا، وتركت صلاة السفر على الأولى)[8]. قال المصنف: (وصلَّى في مكة ثلاث سنين،وبعدها: أُمر بالهجرة إلى المدينة): والمعنى: أنه بعد أن فُرضت عليه الصلوات الخمس، صلَّى في مكة ثلاث سنين الصلوات الخمس على النحو الذي نصليه [9]؛وبعد الثلاث عشرة سنة من بعثته أُمر بالهجرة من مكة إلى المدينة؛ والدليل على أن الهجرة بعد ثلاث عشرة سنة من البعثة حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: (بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثم أُمر بالهجرة فهاجر عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين)[10]. [1] ينظر: تيسير الوصول شرح ثلاثة الأصول، د. عبدالمحسن القاسم (174-175)؛ وشرح الأصول الثلاثة، عبدالرحمن البراك (39)؛ وشرح ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (204). [2] ينظر: حاشية ثلاثة الأصول، عبدالرحمن بن محمد بن قاسم (81)؛ وحصول المأمول بشرح ثلاثة الأصول، عبدالله بن صالح الفوزان (165). [3] أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة، برقم (1458)؛ وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب:الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، برقم (31). [4] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: الإيمان، باب:في قوله عليه السلام: «نور أنى أراه»، وفي قوله: «رأيت نورا»، برقم (291) و (292). [5] سورة الإسراء، الآية [1]. [6] شرح ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (204- 205). [7] شرح ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (203). [8] أخرجه البخاري في كتاب: مناقب الأنصار، باب: التاريخ، من أين أرخوا التاريخ، برقم (3935)؛ وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب:صلاة المسافرين وقصرها، ولفظه: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر). [9] شرح ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (206). [10] أخرجه البخاري، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (3902)؛ وأخرجه مسلم في كتاب: الفضائل، باب: كم أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة والمدينة، برقم (2351).