المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ضربة قاضية


حكآية روحْ ❤
04-10-2020, 03:41 AM
ضربة قاضية



و ما أكاد أجلس على المقعد الطويل حتى تمتدّ يده إليّ بزُجاجة الديوارس فيصب لي منها في الكأس المُضلّعة ، و يتابعني وأنا أشرب ، ثم يسأل باهتمام :

_ أين تذهب هذا المساء ؟

فأجيبه بما أنوي الذهاب إليه من سينما أو مسرح أو صالة غناء

فيقول : كلّ هذا جميل في عهد الشباب .

فأقول ضاحكاً :

_ شباب .. شباب .. لِم التغنّي الدائم بالشباب ؟ .. أليس لكلّ فترة من العُمر قيمتها ؟

_ إنّك تتطاول على الشباب لأنّك شاب ، بالله انتبه إلى قيمة الكنز الذي في قلبك ..

_لا تبالغ يا فاسيليادس ، الحياة ليست دماء و ساعات ودقائق ..

_ إذن ما هي الحياة ؟

_ هي المال قبل كلّ شئ يا فاسيليادس .

_ المال مهم جدّاً ، و لكن الشباب أهم ، ثم إن مظهرك ..

فقاطعته :

_ دعك من مظهري … الرغائب كثيرة و اليد قصيرة فلا تحدّثني عن الشباب ..

_ أتدري كيف كان صاحب هذه القهوة عندما هاجر إلى مصر ؟

_ جاء فقيراً مُعدماً ثم شقّ سبيله في عالم غير عالم الوزارة والوظائف . جميع الترقيّات و العلاوات موقوفة لأجل غير مسمّى فماذا بقى للشباب ؟

_ الموقوف اليوم يسير غداً ، و لا يبقى شئ على حاله ..

……….

فملأ الكأس و أهداني قُرنفُلة و ابتسامة ،و حلا كلّ شئ وطاب حتى نسيت فاسيليادس نفسه و جعلت أردّد بصوتٍ مُنخفض :

كتمت الهوى حتى أضر بك الكتم .. و لامك أقوام و لومهم ظلم

و إذا به يتساءل :

_ شعر ؟

فقلت و أنا أضحك من غفلتي :

_ نعم .

_ خبّرني عن معناه ؟

فرحت أشرح له كلمة كلمة و هو يتابعني باسماً ، ثم قال :

_ جميل حقّاً ، و لكن أأنت عاشق أم شاعر ؟

فقلت بنبرة اعتراف :

_ عاشق !

_ جميل حقّاً و لكن لماذا الكتم و لماذا الظلم ؟

_ هكذا الحب في بلادنا .

_ الحب أن تتكلّم و أن تحب و أن تمرح مع من تحب ..

_ هذا عند اليونان .

_ و الرومان .. و كلّ الناس ..

فهتفت مُنتشياً :

_ بالله احكم العالم يا فاسيليادس .

_ أنت شاب مُهذّب و قوي ، أي بنت يمكن أن تحبّك و لكن لاتكتم و إلّا فكيف يعرف المحبوب أنّك تحبه و لا تهتم بلوم الظالم

فسألني بإشفاق :

_ كيف حال الوليد ؟

_ يتقدّم إلى الشفاء ، و في الطريق آخر فيما يبدو !

_ مبارك ، هذا عهد الإنجاب ، أنت رجل محترم و لا عيب فيك إلّا أنّك سريع الشكوى !

_ الحقّ أن الحياة لا تسُر ..

_ كيف لا و أنت موظّف محترم و زوج و أب ؟

_ أقصد البلد ، و حياتنا السياسيّة ، لعلّك لا تهتم بذلك ؟

_ من بعيد ، كثيراً ما أرى من موقفي وراء البار المظاهرات و أسمع الهتافات ، و أرى عساكر البوليس و هم يطاردون الطلبة ، ثم تجيء اللوريات و عربات الإسعاف ، كثيراً .. كثيراً ، لماذا أنتم عصبيّون هكذا ؟

_ بلد تعيس الحظ يا فاسيليادس .

_ هكذا السياسة في كلّ مكان ، عندنا في اليونان سالت دماء كثيرة . لا تحزن ، أين كنت أمس و أين أنت اليوم ؟ ، و ستشرب هنا نخب انتصارات قادمة و سوف أذكّرك ..

و لاحظ أنني هجرت مجلسي التقليدي إلى مقعد وراء البرافان الذي يفصل القهوة عن رُكن الشراب فقال :

_ ألاحظ أنّك تفضّل الاختفاء .

فضحكت عالياً و قلت :

_ ابني اليوم في سن الشباب و قد رأيته مرّة و هو يمر أمام القهوة في رفقة بعض الصحاب ..

_ عجيب أن يخاف الأب ابنه !

_ شد ما أعاني من الأبناء .

_ لماذا يا سيّدي و أنت رجل طيّب ؟

_ لا نكاد نتّفق في رأي أو ذوق و أشعر حقّاً بأني غريب .

_ و لماذا تريدهم على أن يكونوا مثلك ؟

_ على أيامنا ..

و لكنّه قاطعني :

_ أيام الترقيّات و العلاوات الموقوفة !

فلم أتمالك من الضحك و قلت :

_ إذن فأنت لا يزعجك تمرُّد الأبناء !

_ تعلّم منهم ! .. تعلّم منهم إن استطعت ..


و قصصت عليه ، حلماً زارني فيه الموت فقال :

_ لا تصدّق ، الموت لا يجيء إلّا مرّة واحدة ، و إذا جاء أعقبته سعادة كبرى .

_ ها أنت تتحدّث عمّا وراء الموت ..

فقال بثقة :

_ من أين أتيت ؟ . ألا يشبه الظلام الذي أتيت منه الظلام الذي ستذهب إليه بعد عُمر طويل ؟ ، و قد أمكن أن خرج من الظلام الأوّل حياة فما يمنع من أن تستمر الحياة في الظلام الثاني ؟!

_ البقيّة في حياتك في فاسيليادس ..

هتفت رغم ضعفي :

_ لا ..

فقال :

_ هكذا قلنا جميعاً ، لم نصدّق أعيننا و نحن نراه و هو يتهاوى وراء البار ، و قبيل ذلك بثوان كان يضحك و يتحدّث و هو واقف كتمثال ، و لكن بالله خبّرني كيف يمكن أن يموت رجل في مثل قوّته إلّا بضربة قاضية ؟! ”





لـ الروائي الكبير:نجيب محفوظ رحمه الله
http://up.movizland.com/uploads/13413134078.gif