التوسل بغير الله1
يَجْدُر بنا أن نُعرِّف التوسُّل، ونوضِّح الفرق بينه وبين الاستغاثة، ونَشْرح مفهومه قبل أن نخوضَ في خباياه ومقتضياته؛ حتىَّ تتَّضِح لنا الصُّورةُ، ونكونَ على بيِّنة من أمرنا.
فالتوسُّل: هو طلب المَعُونة من الله بطريقة غير مباشرة، يتَّكِئ بها الدَّاعي تقرُّبًا، كأن يقول: اللَّهم فرِّجْ كربي بجاه نبيِّك، أو بجاه فلان من الصَّالحين.
والاستغاثة: طلَب الغَوْث مِن مَخْلوقٍ كائنًا مَن كان وبطريقة مباشِرة، كأنْ يقول: يا فلان، نجِّني من الكُربات، ارزُقني أولادًا، ونحو ذلك.
وهو على قسْمَيْن؛ توسُّل غير مشْروع، وتوسُّل مشْروع، أمَّا التوسُّل غير المشروع فكَما جاء في التَّعريف.
أمَّا التَّوسُّل المشروع: فكالتوسُّل بأسماء الله الحُسْنى وصفاتِه العُلا، وبالإيمان بالله وبالعمل الصَّالح، وكدعاء ولي حيٍّ منَ الأولياء في مصائب عامَّة، كما توسَّلَت الصحابة بالعبَّاس عمِّ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلم - وتوسَّل مَن بعدهم بأسود بن يزيد.
فمفهوم التوسُّل الممنوع: إنما هو التقرُّب والتزَلُّف بما يَعتقِده المُتوسِّل أنه مبارك ومقبول عند الله، وهو منْهِي عنه، بل هو شرك بالله كما سنبيِّنه قريبًا، فنقول: إذا كان التوسُّل بالنبي المرْسَل والملَكِ المقرَّب منْهيًّا عنه، فكيف بِمَن دونهما؟ لا شكَّ أن النَّهْي عن التوسُّل بغيرهما من بابِ أَوْلى وأحرى.
ثُمَّ إنه إذا توسَّل متوسِّلٌ بغير الله، فهو بذلك يعبد غير الله؛ كطَلَبِه منهم كشْف الضَّرر أو جَلْبهم له مصلحة، مع أنهم لا يَملكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفْعًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نُشورًا، كما قال تعالى في أوَّل سورة الفرقان: ï´؟ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ ï´¾ [الفرقان: 1] إلى قوله ï´؟ وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ï´¾ [الفرقان: 3]، وكما قال تعالى: ï´؟ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ ï´¾ [يس: 23]، وقال تعالى: ï´؟ فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ï´¾ [الأحقاف: 28]، وقد قال تعالى بعدَما تكَلَّم الله في أوَّل سورة الزُّمر عن الإخلاص، وأنَّ لله الدِّينَ الخالِص: ï´؟ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ï´¾ [الزمر: 3].
فعُلِم بذلك أنَّ مَن اتَّخذ من دون الله أولياء للتقرُّب أو للتزلُّف؛ سواء كانوا أصنامًا أو أشخاصًا، فقد خالَف التَّوحيد والإخلاص، وأشرَكَ بالله العظيم، وانحَرَف عن الصِّراط المستقيم والدِّين الخالص لله، واتَّبَع خطوات الشيطان، ووقَع في الضَّلال المُبِين، وقد حَكَم الله - سبحانه وتعالى - على مَن كان أمرُه كذلك بالكذب والكفر كما ترى.
إذًا ظهر لك جليًّا أن مفهوم التوسُّل: التقرُّب واتِّخاذ شفعاء ووسائط من دون الله، وهو عَيْن الشِّرك الذي منَعه الله في كتابه العزيز، كما جاء في الآيات القرآنية الكثيرة، ولِتَشبيه المتوسِّل خالقه بالمخلوق الضَّعيف الذي يحتاج إلى وزير يُعِينه، كما أفاده شيخ الإسلام ابن تيميَّة في بحوثه.
والغريبُ في الأَمر أنَّ الصُّوفية تجهل الأدلَّة الواضحة الجليَّة في القرآن، بل إنَّك تجد سورة الفاتحة - وهي التي تُقرأ سبعَ عشرةَ مرَّة في الفرائض، ومع الرَّواتب والنَّوافل تقريبًا خمسين مرة - تأمر بعبادة الله وحْدَه، والاستعانة بالله وحْدَه، فإذا كان الله يَأْمرك ألاَّ تستعين إلاَّ به، فلماذا تذهب إلى غيره لتستعين به وتسأله، أو تتوسَّل به فيما لم يأمرك الله أن تتوسَّل به؟!
وقد قال تعالى: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ï´¾ [المائدة: 35].
فهنا قال الله تعالى: ï´؟ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ï´¾ ولم يقل: وابتغوا إلى الأولياءِ الوسيلة، أو: وابتغوا إلى الله الوسيلة بالأولياء، وقوله تعالى: ï´؟ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ï´¾ إشارةٌ إلى التوسُّل بالأعمال الصَّالحات كالجهاد في سبيل الله؛ إذْ هو أدعى للإجابة لا التوسُّل بالأولياء كما تزعم الصُّوفية؛ ولِذَلك ختم الله الآية بقوله: ï´؟ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ï´¾ دليلاً على أنَّ مَن سلك غير هذه السبيل، فقد ضلَّ عن سواء السَّبيل، وخسر خسرانًا مبينًا.
وإن كانت الصُّوفية قد تقول جدَلاً وبهتانًا: قوله تعالى: ï´؟ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ï´¾ عامٌّ، ولكننا نقول لهم: هو تمسُّك بظاهر اللَّفظ بدون مستَنَد، وتكَلُّف بلا مسوِّغ، ولو كان استدلالكم صحيحًا لمَا عارضه مجْمَلُ آيات القرآن البيِّنات، والقرآن يؤيِّد بعضه بعضًا.
وقال تعالى في سورة الإسراء: ï´؟ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ï´¾ [الإسراء: 56 - 57].
وهنا أيضًا قد بيَّن الله أنَّ هؤلاء يبتغون إلى ربِّهم الوسيلة، ولم يَقُل: يتوسَّلون بالأولياء، وسبب نُزول الآيتين هو أن نفَرًا من الجِنِّ كانوا يُعبَدون، فأسلَمُوا، فبقيَ الذين كانوا يعبدونهم على حالهم، والحديثُ في صحيح البُخاري في كتاب التفْسير.
وأيضًا في هذه الآية إشارات:
الأولى: خطأ التوسُّل بغَيْر الله؛ حيث صار الذين كان يُتَوسَّل بهم إلى الله يَتوسَّلون ويدعون يبتغون إلى ربِّهم الوسيلةَ - أي: التوسُّل المشروع - مما يدلُّ على ضَلال الفِرْقةِ الأُولى، وخطَئِهم الفادح؛ لتوسُّلهم بالمخلوق الضعيف.
الثانية: يأمر الله سبحانه أن يَدْعُوَ المشركون الذين زعَمُوا مِن دون الله، وأخبر أنهم إنْ فعَلوا ذلك فإنَّهم لا يملكون لهم ضرًّا ولا نفعًا، وهذا أسلوب بليغ تعجيزي، لا على حقيقته؛ إذْ أخبرَ الله أنهم سيَخْسرون في ذلك فعلاً؛ لأنَّ المدْعُوِّين لا يملكون ضرًّا ولا نفعًا، وإنما الواجب الذي عليهم هو أن يفعلوا كما فعلوا، ويوجِّهوا دعاءهم ووسيلتهم إلى ربِّهم وحْدَه، ويَرجو رحمة الله، ويخافوا مِن عذاب الله، لا أن يكونَ رجاؤُهم وخوفهم واستعانتهم وتوكُّلهم مرتبطًا بعبادٍ ضعفاء مثْلِهم لا يملكون لأنفسِهم ضرًّا ولا نفعًا، فضْلاً عن غيرهم، وهذا هو الضلال المُبين.
والثالثة: عبَّر الله سبحانه بتصرُّفاتهم بالزَّعم، وهو ما يَزِيد في توبيخهم وتهكُّمهم بما كابروا وعاندوا فيه، وأنهم مع ذلك لا يَجْنون مِن وراء ذلك كشْفَ الضرِّ عنهم ولا تحويلاً؛ وذلك لأنهم لا يتَّبعون إلاَّ الظن.
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|