الْمُهَيْمِنُ جَلَّ جَلَالُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُه
الْمُهَيْمِنُ
جَلَّ جَلَالُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ
الدِّلَالَاتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسْمِ (المُهَيْمِنِ):
المُهَيْمِنُ فِي اللّغَةِ اسْمُ فَاعِلٍ لِلْمَوْصُوفِ بِالهَيْمَنَةِ، فِعْلُهُ هَيْمَنَ يُهَيْمِنُ هَيْمَنَةً.
وَالهَيْمَنَةُ عَلَى الشَّيْءِ السَّيْطَرَةُ عَلَيْهِ وَحِفْظُهُ وَالتَّمَكُّنُ مِنْهُ؛ كَمَا يُهَيْمِنُ الطَّائِرُ عَلَى فِرَاخِهِ وَيُرَفْرِفُ بِجَنَاحَيْهِ فَوْقَهُم لِحمَايَتِهِم وَتَأْمِينِهِم.
وَيُقَالُ: المُهَيْمِنُ أَصْلُهُ المُؤْمِنُ مِنْ آمَنَ؛ يَعْنِي: أَمَّنَ غَيْرَهُ مِنَ الخَوْفِ[1].
واللهُ عز وجل هُوَ المُهَيْمِنُ عَلَى عِبَادِهِ؛ فَهُوَ فَوْقَهُمْ بِذَاتِهِ؛ لَهُ عُلُوُّ القَهْرِ وَالشَّأْنِ، مَلِكٌ عَلَى عَرْشِهِ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي مَمْلَكَتِهِ، يَعْلَمُ جَمِيعَ أَحْوَالِهمِ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهمْ، هُوَ القَاهِرُ فَوْقَهُمْ، وَإِنْ تَرَكَهُمْ أَوْ تَرَكَ بَعْضَهُمْ مَعَ ظُلْمِهِمْ وَكُفْرِهِمْ فَذَلِكَ لِحكْمَتِهِ فِيمَا هُمْ فِيهِ مُبْتَلُونَ، وَلِمَا قَضَى وَقَدَّرَ مُيَسَّرُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾ [إبراهيم: 42].
فَهُوَ مُحِيطٌ بِالعَالَمِينَ، مُهَيْمِنٌ بِقُدْرَتِهِ عَلَى الخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ فَقِيرٌ، وَكُلُّ أَمْرٍ عَلَيْهِ يَسِيرٌ، لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى شَيْءٍ: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11][2].
فَجِمَاعُ مَعْنَى المُهَيْمِنِ: أَنَّهُ المُحِيطُ بِغَيْرِهِ، الَّذِي لَا يَخْرُجُ عَنْ قُدْرَتِهِ مَقْدُورٌ، وَلَا يَنْفَكُّ عَنْ حُكْمِهِ مَفْطُورٌ، لَهُ الفَضْلُ عَلَى جَمِيعِ الخَلَائِقِ فِي سَائِرِ الأُمُورِ.
قَالَ أَبُو الحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ: «خَلَقَ الأَشْيَاءَ بِقُدْرَتِهِ، وَدَبَّرَهَا بِمَشِيئَتِهِ، وَقَهَرَهَا بِجَبَرُوتِهِ، وَذَلَّلَهَا بِعِزَّتِهِ؛ فَذَلَّ لِعَظَمَتِهِ المُتَكَبِّرُونَ، وَاسْتَكَانَ لِعِزِّ رِبُوبِيَّتِهِ المُتَعَظِّمُونَ، وَانْقَطَعَ دُونَ الرُّسُوخِ فِي عِلْمِهِ العَالِمُونَ، وَذَلَّتْ لَهُ الرِّقَابُ، وَحَارَتْ فِي مَلَكُوتِهِ فِطَنُ ذَوِي الأَلْبَابِ، وَقَامَتْ بِكَلِمَتِهِ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ، واسْتَقَرَّتِ الأَرْضُ المِهَادُ»[3].
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: «وَأَصْلُ الهَيْمَنَةِ: الحِفْظُ والارْتِقَابُ، تَقُولُ: هَيْمَنَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٌ إِذَا صَارَ رَقِيبًا عَلَيْهِ فَهُوَ مُهَيْمِنٌ»[4].
فَالمُهَيْمِنُ الرَّقِيبُ عَلَى الشَّيْءِ، وَالحَافِظُ لَهُ، وَالقَائِمُ عَلَيْهِ، وَهَذَا مُلْحَقٌ بِالمَعْنَى السَّابِقِ، وَيُلْحَقُ بِهِ أَيْضًا تَفْسِيرُ المُهَيْمِنِ بِالشَّهِيدِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 48].
فَاللهُ شَهْيدٌ عَلَى خَلْقِهِ بِمَا يَكُونُ مِنْهُمْ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ[5].
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، فِيمَا يَرْوِي عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى؛ أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ»[6].
وَقِيلَ فِي مَعْنَى المُهَيْمِنِ أَيْضًا: إِنَّهُ الَّذِي لَا يُنْقِصُ الطَّائِعَ مِنْ ثَوَابِهِ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَ، وَلَا يَزِيدُ العَاصِي عِقَابًا عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ؛ لَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الكَذِبُ.
وَقَدْ سَمَّى الثَّوَابَ وَالعِقَابَ جَزَاءً، وَلَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ بِزِيَادَةِ الثَّوَابِ، وَيَعْفُوَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ العِقَابِ[7].
وُرُودُهُ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ[8]:
وَرَدَ الاسْمُ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ ﴾ [الحشر: 23].
وَذَكَرَ اللهُ مَعْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 48].
مَعْنَى الاسْمِ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى:
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: «وَقَوْلُهُ المُهَيْمِنُ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِ: فَقَالَ بَعْضُهُم: (المُهَيْمِنُ) الشَّهِيدُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُم»[9].
وَقَالَ أَيْضًا: «وَأَصْلُ الهَيْمَنَةِ الحِفْظُ وَالارْتِقَابُ، يُقَالُ: إِذَا رَقَبَ الرَّجُلُ الشَّيْءَ وَحَفِظَهُ وَشَهِدَهُ: قَدْ هَيْمَنَ فُلَانٌ عَلَيْهِ فَهُوَ يُهَيْمِنُ هَيْمَنَةً وَهُوَ عَلَيْهِ مُهَيْمِنٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ، إِلَّا أَنَّهُمْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ عَنْهُ»[10].
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: «قَالَ ابْنُ عَبَاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: أَيِ: الشَّاهِدُ عَلَى خَلْقِهِ بِأَعْمَالِهِمْ، بِمَعْنَى هُوَ رَقِيبٌ عَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ: ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المجادلة: 6]، وَقَوْلِهِ: ﴿ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ﴾ [يونس: 46]، وَقَوْلِهِ: ﴿ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ ﴾ [الرعد: 33]»[11].
وَقَالَ الحُلَيْمِي: «(المُهَيْمِنُ) وَمَعْنَاهُ: لَا يُنْقِصُ لِلمُطِيعِينَ يَوْمَ الحِسَابِ مِنْ طَاعَاتِهِم شَيْئًا فَلَا يُثِيبُهُمْ عَلَيْهِ، لَأَنَّ الثَّوَابَ لَا يُعْجِزُهُ، وَلَا هُوَ مُسْتَكْرَهٌ عَلَيْهِ فَيَحْتَاجُ إِلَى كِتْمَانِ بَعْضِ الأَعْمَالِ أَوْ جَحْدِهَا، وَلَيْسَ بِبَخِيلٍ فَيَحْمِلُهُ اسْتِكْثَارُ الثَّوَابِ إِذَا كَثُرَتِ الأَعْمَالُ عَلَى كِتْمَانِ بَعْضِهَا، وَلَا يَلْحَقُهُ نَقْصٌ بِمَا يُثِيبُ فَيَحْبِسُ بَعْضَهُ؛ لَأَنَّهُ لَيْسَ مُنْتَفِعًا بِمُلْكِهِ حَتَّى إِذَا نَفَعَ غَيْرَهُ بِهِ زَالَ انْتِفَاعَهُ بِنَفْسِهِ.
وَكَمَا لَا يُنْقِصُ الُمطِيعَ مِنْ حَسَنَاتِهِ شَيْئًا، لَا يَزِيدُ العُصَاةَ عَلَى مَا اجْتَرَحُوهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ شَيْئًا فَيَزِيدُهُمْ عِقَابًا عَلَى مَا اسْتَحَقُّوهُ، لَأَنَّ وَاحِدًا مِنَ الكَذِبِ والظُّلْمِ غَيْرُ جَائِز عَلَيْهِ، وَقَدْ سَمَّى عُقُوبَةَ أَهْلِ النَّارِ جَزَاءً، فَمَا لَمْ يُقَابِلْ مِنْهَا ذَنْبًا لَمْ يَكُنْ جَزَاءً، وَلَمْ يَكُنْ وِفَاقًا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ[12].
قَالَ الرَّازِي: «فِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ:
الأَوَّلُ: (المُهَيْمِنُ) هُوَ الشَّاهِدُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 48].
قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنَّ الكتابَ مُهَيْمِنٌ لِنَبِيِّنَا
وَالحَقُّ يَعْرِفُهُ أُولُو الأَلْبَابِ
فَاللهُ سُبْحَانَهُ مُهَيْمِنٌ أَيْ: شَاهِدٌ عَلَى خَلْقِهِ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ﴾ [يونس: 61]، فَيَكُونُ المُهَيْمِنُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ هُوَ العَالِمُ بِجَمِيعِ المَعْلُومَاتِ، الَّذِي لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ.
الثَّانِي: (المُهَيْمِنُ) هُوَ المُؤْمِنُ قُلِبَتِ الهَمْزَةُ هَاءً لَأَنَّ الهَاءَ أَخَفُّ مِنَ الهَمْزَةِ.
الثَّالِثُ: قَالَ الخَلِيلُ بِنُ أَحْمَدَ: «(المُهَيْمِنُ) هُوَ الرَّقِيبُ الحَافِظُ وَمِنْهُ قَوْلُ العَرَبِ: هَيْمَنَ فُلَانٌ عَلَى كَذَا إِذَا كَانَ مُحَافِظًا عَلَيْهِ».
الرَّابِعُ: قَالَ المُبَرِّدُ: «(المُهَيْمِنُ) الحَدبُ المُشْفِقُ، تَقُولُ العَرَبُ لِلطَّائِرِ إِذَا طَارَ حَوْلَ وَكْرِهِ، وَرَفْرَفَ عَلَيْهِ، وَبَسَطَ جَنَاحَهُ يَذُبُّ عَنْ فَرْخِهِ: قَدْ هَيْمَنَ الطَّائِرُ».
قَالَ أُمَيَّةُ بِنُ أَبِي الصَّلْتِ:
مَلِيكٌ عَلَى عَرْشِ السماءِ مُهَيْمِنٌ
لِعِزَّتِهِ تَعْنُو الوُجُوهُ وَتَسْجُدُ
الخَامِسُ: قَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: «(المُهَيْمِنُ) المُصَدِّقُ، وَهُوَ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَصْدِيقُ بِالكَلَامِ، فَيُصَدّقَ أَنْبِيَاءَهُ بِإِخْبَارِهِ تَعَالَى عَنْ كَوْنِهِم صَادِقِينَ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى تَصْدِيقِهِ لَهُمْ هُوَ أَنَّهُ يُظْهِرُ المُعْجِزَاتِ عَلَى أَيْدِيهِمْ».
السَّادِسُ: قَالَ الغَزَالِيُّ: «اسْمٌ لِمَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِمَجْمُوعِ صِفَاتٍ ثَلَاثٍ، أَحَدُهُا العِلْمُ بِأَحْوَالِ الشَّيْءِ، وَالثَّانِي: القُدْرَةُ التَّامَّةُ عَلَى تَحْصِيلِ مَصَالِحِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، والثَّالِثُ: الُموَاظَبَةُ عَلَى تَحْصِيلِ تِلْكَ المَصَالِحِ، فَالجَامِعُ لِهَذِهِ الصِّفَاتِ اسْمُهُ (المُهَيْمِنُ)، وَأَنَّى أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى الكَمَالِ إِلَّا للهِ تَعَالَى»[13].
وَقَالَ السَّعْدِيُّ: «(المُهَيْمِنُ): المُطَّلِعُ عَلَى خَفَايَا الأُمُورِ، وَخَبَايَا الصُّدُورِ، الَّذِي أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا»[14].
|
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|